سورة الرعد - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{بسم الله الرحمن الرحيم المر}
قيل: معناه: أنا أعلم، الله أعلم وأرى. وقيل: مختصرة من لفظ المرسل، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة: فالألف لوحدة الجبروت، واللام لتدفق أنوار المكوت، والميم لحس عالم الملك والراء لسريان أمداد الرحموت.
{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}. قلت: {تلك} مبتدأ. و{آيات}: خبر، و{الذي أُنزل}: مبتدأ، و{الحق}: خبر، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى.
يقول الحق جل جلاله: أيها المرسل المعظم، والحبيب المفخم، {تلكَ} الآيات التي تتلوها على الناس هي {آياتُ الكتاب} المنزل من حضرة قدسنا. {و} الكتاب أي: القرآن {الذي أُنزل إليك من ربك} هو {الحق} الذي لا ريب فيه، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون}؛ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
الإشارة: لَوْ صَفَت القلوب من الأكدار، ومُلئت بالمعارف والأنوار؛ لفهمتْ أسرار الكتاب، وجواهر معانيه، ولأدركت معرفة الحق من كلامه؛ لأن الكلام صفة المتكلم، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى، فصُرفوا عن فهم الكلام، وفاتهم معرفة المتكلم.


قلت: {الله}: مبتدأ، {الذي رَفَعَ}: خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر: {يُدبر الأمر}، و{عَمَدَ}: اسم جمع عمود، وقياس جمعه: عُمُد كرسول ورُسُل، وشهاب وشُهُب، وليس جمعاً خلافاً لأبي عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي: جمع عِمَاد، كإهاب وأهب. وجملة: {ترونها}: إما حال، أو استئنافية؛ فالضمير للسماوات، وإما صفة لعَمد فالضمير لها، أي: ليس لها عَمد مرئية، فيقتضي بالمفهوم أن لها عمداً لا تُرى. وقيل: إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور: أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفي العمد، ونفي رؤيتها. قاله ابن جزي.
يقول الحق جل جلاله: مستدلاً على وجوده، وكمال قدرته: {اللهُ الذي رفعَ السماواتِ} فوقكم كالسقف المرفوع {بغير عَمَدٍ}: أساطين، بل بقدرة أزلية، {ترونها} مرفوعة فوقكم. أو بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي: أسرار الذات العلية؛ إذ لا فاعل سواه. {ثم استوى على العرش} استواء استيلاء وإحاطة، حتى صار العرشُ غيباً في إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريراً يجلسون عليه لتدبير المملكة، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم، ولذلك رتب عليه قوله: {وسخَّر الشمسَ والقمر}؛ لأن هذا من تدبير ملكه، أي: ذللهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرة على حد من السرعة؛ لينتفع بهما عباده في معاشهم ومعالم دينهم. {كلٌّ} منهما {يجري لأجَلٍ مُسمى}: لمدة معينة تتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما؛ وهي يوم القيامة، حين تكوّر الشمس والقمر. {يُدبر الأمرَ}؛ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، وغير ذلك، {يُفصل الآياتِ}: ينزلها ويُبين معانيها مفصلة، أو يُحدث الدلائل واحداً بعد واحدٍ؛ {لعلكم بلقاء ربكم تُوقنون}: لكي تتفكروا فيها، وتتحقوا كمال قدرته فتعلموا أنّ مَنْ قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.
الإشلرة: الله الذي رفع سماوات الأرواح، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش، وهو قلب العارف؛ لأنه سرير المعرفة، ومحل بيت الرب، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد، يجريان بالترقي إلى محل التمكين، وهو الأجل المسمى لهما، يدبر أمر السير والترقي، ويُفصِّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق؛ لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون، حين يكون ذوقاً وكشفاً، والله تعالى أعلم.


قلت: {رواسي}: جمع راسية، من رسى الشيء: ثبت، و{جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} مَنْ خَفَضَ عطف على {أعناب}، ومن رفع عطف على {جنات}، و{صنوان} نعت تابع، و{غير}: عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله: {وهو الذي مدَّ الأرض}؛ بسطها طولاً وعرضاً؛ لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام، {وجعلَ فيها رواسي}: جبالاً ثوابت لتستقر وتثبت، فلا تميد كالسفينة، {و} جعل فيها {أنهاراً} مطرده دائمة الجري، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال؛ لأنها أسبابٌ لتولدها في العادة. {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي: وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات؛ فكل ثمرة فيها صنفان؛ أحمر وأسود، أو حلو وحامض، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافاً كثيرة؟ فالجواب: أن ذلك زيادة في الاعتبار، وأعظم في الدلالة على القدرة بذكر الاثنين؛ لأن دلالة غيرهما من باب أولى. اهـ.
{يُغشى الليلَ النهارَ}، أي: يجعل الليلَ غشاءً على النهار ولباساً له، فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً. {إنَّ في ذلك لآياتٍ}؛ دلائل وجوده وباهر قدرته {لقوم يتفكرون} فيها؛ فإن وجودها وتخصيصها في هذا الشكل العجيب، دليل على وجود صانع حكيم، دبر أمرها، وهيأ أسبابها.
{وفي الأرض قِطَعٌ متجاوراتٌ}؛ قريب بعضها من بعض، مع اختلاف أوصافها، بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، وبعضها معادن مختلفة. ولولا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال، على وجهٍ دون وجه، لم يكن الحكم كذلك؛ لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث إنها متضامة متشاركة في السبب والأوضاع. قاله البيضاوي: {وجناتٌ من أعناب وزرعٌ ونخيلٌ}؛ أي: وفي الأرض أيضاً بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع والنخيل، من صفة تلك النخيل: {صِنْوَانٌ} أي: نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد، {يُسقى بماءٍ واحد ونُفَضِّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل} أي: في الثمر المأكول؛ قدراً وشكلاً، وطعماً، ورائحةً ولوناً، مع اتفاق الماء الذي تُسقى به. وذلك مما يدل أيضاً على الصانع القادر الحكيم؛ فإن إيجادها، مع اختلاف الأصول والأسباب، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون}: يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار، فيُدركون عظمة الواحد القهار.
الإشارة: ذَكَرَ أولاً سماء الأرواح، وما يُناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وذكر هنا أرض النفوس، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم، فقال: وهو الذي مد أرض النفوس، وجعل فيها جبالاً من العقول الشامخة، حتى أدركت الصانع، وتحققت بوجوده ووحدانيته، بالدلائل الواضحة، والبراهين القطعية، وأنبع منها أنهاراً من العلوم الرسمية؛ والرقائق الوعظية.
وجعل فيها من كل صنف؛ من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين: قبضاً وبسطاً منعاً ووجداً، ذلاً وعزاً، فقراً وغنىً. يغْشيانها غشاءَ الليل للنهار؛ فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط، فيزيله، وإذا كان المنع، غشية الوجد، وإذا كان الذل غشيه العز، وإذا كان الفقر غشيه الغنى، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال.
وفي أرض النفوس أيضاً قطع متجاورة، مع اختلاف ألوانها وطبائعها، وعلومها ومعارفها، ومواجدها وألسنتها. وفيها أيضاً جنات المعارف إن اتصلت بطبيب عارفٍ من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل، ونخيل الأذواق والوجدان، صنوان وغير صنوان يعني من تعتريه الأحوال، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه، تُسقى بخمره واحدة، وهي الخمرة الأزلية، على أيدي الوسائط، أو بلا وسائط، وهو نادر. ونُفضل بعضها على بعض في الأذواق والوجدان؛ فترى العارفين بعضهم قطب في الأحوال، وبعضهم قطب في المقامات؛ كان الجنيد رضي الله عنه قطباً في العلوم، وكذا الشاذلي والجيلاني والغزالي، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطباً في الأحوال، وكان سهلُ التسْتُري قطباً في المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم، كل واحد وما يغلب عليه، مع مشاركته لغيره في الثلاث. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8